بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 4 سبتمبر 2013

التغير المفاجئ في المناخ


لتغير المفاجئ في المناخ(*)

إن تدهور درجات الحرارة بمقدار ست درجات مئوية (سيليزية) والجفاف المفاجئ الذي يحرق

الأراضي الزراعية في أنحاء شتى من الكرة الأرضية ليسا مجرد مادة لأفلام الرعب. فمثل هذه

التغيرات المناخية المثيرة حدثت من قبل، وفي بعض الأحيان دامت عدة سنوات.


في فيلم الإثارة «يوم ما بعد غد» الذي أنتجته هوليوود، تجتاح العالم على حين غرة كارثة مناخية بحجم العصر الجليدي. يهرب ملايين السكان من أمريكا الشمالية إلى المكسيك المشمسة، في حين تتربص الذئاب بالقلة الباقية من الناس الرابضين في مدينة نيويورك التي ضربها جو جاف متجمد. كما تدمر الأعاصير القمعية ولاية كاليفورنيا، وتدك حبات البَرَد العملاقة مدينة طوكيو.

هل يمكن أن تحدث قريبا تغيرات مناخية ساحقة مفاجئة، أم إن استوديوهات فوكس بالغت كثيرا في فيلمها؟ يبدو أن الإجابة عن كلا السؤالين هي نعم. فمعظم الخبراء يتفقون على أنه ما من داع للخوف من حدوث عصر جليدي مكتمل في العقود القادمة. إلا أن تغيرات مناخية كبيرة مفاجئة قد حصلت فعلا عدة مرات في الماضي، ويمكن أن تحدث مرة أخرى. وفي الواقع، ربما يكون حدوثها أمرا لا مناص منه.

ولا مناص أيضا من مواجهة التحديات التي يمكن أن تسببها هذه التغيرات للبشرية. فموجات غير متوقعة من الدفء يمكن أن تجعل بعض المناطق (من الكرة الأرضية) أكثر ملاءمة للعيش، لكنها قد تسبب ظروفا جوية حارقة في مناطق أخرى. كذلك يمكن لفترات مناخية قصيرة باردة أن تجعل فصول الشتاء قارسة تجمد الأطراف وتسد بالجليد المسارات الملاحية الرئيسية. ويمكن أن تحوِّل فترات الجفاف الشديد الأراضي الخصبة إلى أراض جرداء غير صالحة للزراعة. وستكون هذه العواقب قاسية الوقع على البشر، لأن التغيرات المناخية المفاجئة غالبا ما تدوم قرونا عديدة أو حتى آلاف السنين. وفي الواقع فإن انهيار بعض المجتمعات الغابرة، صار يعزى الآن بشكل رئيسي إلى التغيرات السريعة للمناخ، بعد أن كان يُعزى سابقا إلى عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية.

إن شبح التغير المفاجئ للمناخ اجتذب أبحاثا علمية جادة لأكثر من عقد من الزمن، لكنه لم يستأثر باهتمام صانعي الأفلام والاقتصاديين وصانعي السياسات إلا حديثا. وهذا الاهتمام الزائد في الموضوع، رافقه الارتباك المتزايد حول العوامل التي تفعّل مثل هذا التغير وحول نتائجه. وقد يعتبر المراقب العادي أن التغيرات السريعة للمناخ تقلل من آثار الاحترار العالمي الذي يسببه الإنسان، لكن هناك دليلا على أن هذا الاحترار حري أن يبعث القلق أكثر من أي وقت مضى؛ فمن الممكن أن يدفع مناخ الكرة الأرضية إلى تغيرات سريعة مفاجئة.

تقلب المناخ بين الدفء والبرودة(**)
لم يكن للعلماء أن يقيّموا قدرة المناخ على التقلب من حالة إلى أخرى مختلفة كليا لولا عينات الجليد اللبية المجتزأة من الصفحة الجليدية الهائلة في گرينلاند في بداية التسعينات من القرن الماضي. إن هذه الأعمدة الهائلة من الجليد التي يبلغ طولها نحو ثلاثة كيلومترات ـ دَفنت في طبقاتها مجموعة واضحة جدا من السجلات المناخية تغطي ال 000 110سنة الماضية. فالباحثون يستطيعون تمييز طبقات سنوية في هذه العينات اللبية الجليدية، وتأريخها باستعمال طرائق متعددة؛ إذ يكشف تركيب الجليد نفسه عن درجة الحرارة التي تَشكَّل عندها.

لقد كشفت مثل هذه الدراسات عن تاريخ طويل من التقلبات الكبيرة للمناخ ـ فترات تجمّد شديدة وطويلة تتناوب مع فترات دفء قصيرة، حيث تعرضت مناطق گرينلاند الوسطى إلى فترات باردة خاطفة انخفضت فيها درجة الحرارة بمقدار ست درجات مئوية خلال بضع سنوات فقط. في المقابل فإن تسخينها خلال عقد واحد يساوي تقريبا نصف التسخين الذي حصل منذ ذروة العصر الجليدي الأخير ـ أي أكثر من 10 درجات مئوية. إن تلك القفزة (في درجة الحرارة) التي حدثت قبل نحو 11500 سنة، تعادل اكتساب مدينة مينياپوليس أو مدينة موسكو الظروف المناخية الحارة والرطبة نسبيا، لمدينة أتلانتا أو مدينة مدريد.



لم تُظهر العينات اللبية الجليدية ما حدث في گرينلاند فقط، لكنها أيضا أشارت إلى الوضع في سائر أنحاء العالم. كان العلماء قد وضعوا فرضية أن تسخين المناطق الشمالية من الأرض بمقدار 10 درجات مئوية هو جزء من حقبة تسخين شملت حزاما واسعا من نصف الكرة الشمالي، وأن هذه الحقبة زادت من هطل الأمطار في تلك المنطقة وفي مناطق أخرى. ففي گرينلاند نفسها، أظهر سُمْك طبقات الجليد السنوية أن تساقط الثلج قد تضاعف فعلا في سنة واحدة. كما أكد تحليل فقاعات الهواء القديمة المحبوسة في الجليد التنبؤ القائل بزيادة سقوط الأمطار في مناطق أخرى. وبشكل خاص دلت قياسات الميثان المحبوس في الفقاعات على أن غاز المستنقعات هذا كان يدخل الجو بسرعة أكبر بخمسين في المئة من سرعته السابقة خلال فترة التسخين الشديد. ومن المرجح أن الميثان قد دخل الجو عند انغمار المستنقعات بالماء في المناطق المدارية وذوبان الجليد في المناطق الشمالية.

وقد قدمت العينات اللبية أيضا دليلا ساعد العلماء على إضافة تفصيلات أخرى حول البيئة في الأزمنة المختلفة. فعلى سبيل المثال أشارت طبقات الجليد التي حَبَست غبارا من قارة آسيا إلى مصدر الرياح السائدة في تلك الأزمنة. واستنتج الباحثون أن الرياح كانت حتما أقل شدة أثناء الأزمنة الدافئة، لأن تراكم الملح البحري والرماد المنقول بالرياح من براكين بعيدة كان قليلا في الجليد. وهناك أدلة أخرى كثيرة [انظر: «الألباب الجليدية في گرينلاند: بقيت متجمدة مع الزمن»،مجلة العلوم، العدد 12، ص 18].

لقد ظهرت فترات دفء شديد مفاجئة أكثر من 20 مرة في سجلات جليد گرينلاند. فخلال عدة مئات أو آلاف السنين بعد بدء حقبة دفء نموذجية رجع المناخ إلى فترة تبريد بطيء تبعتها فترة تبريد سريع خلال زمن لا يتجاوز القرن. ثم تكرر النمط مستهلا بفترة تسخين أخرى ربما استغرقت عدة سنوات فقط. وفي حالات البرد الشديد القصوى، شَرَدت الجبال الجليدية جنوبا حتى شواطئ البرتغال. ولربما سببت تحدياتٌ أقل من ذلك رحيل قوم الڤايكنگ من گرينلاند خلال فترة البرد القصيرة الأخيرة، التي سميت بالعصر الجليدي الصغير والتي بدأت نحو 1400 بعد الميلاد واستمرت 500 عام.

كما ظهرت التقلبات الحادة للمناطق الشمالية بين التسخين والتبريد على نحو مختلف في مناطق أخرى من العالم، رغم احتمال كون العوامل المسببة لها هي ذاتها. فالأزمنة الباردة المطيرة في گرينلاند تلازمت مع أحوال شديدة البرودة وجافة وعاصفة في أوروبا وشمال أمريكا؛ وتلازمت أيضا مع طقس دافئ على نحو غير معتاد في جنوب المحيط الأطلسي والقارة المتجمدة الجنوبية. وقد جمع الباحثون هذه التواريخ من أدلة إضافية وجدوها في مجلدات الجبال العالية، ومن سُمْك حلقات النمو في الأشجار tree rings، ومن أنواع حبوب اللقاح والأصداف المحفوظة في الطين القديم في قيعان البحيرات والمحيطات ومن مصادر أخرى.

وأظهرت الأدلة أيضا أن التغيرات المفاجئة في هطل الأمطار شكلت تحديات تعادل تلك المتعلقة بتذبذبات درجات الحرارة. فالأزمنة الباردة في الشمال جلبت، بطبيعة الحال، الجفاف للصحراء الإفريقية والهند. فقبل نحو 5000 سنة حوَّل جفاف مفاجئ الصحراء الكبرى الإفريقية من مروج خضراء مرصعة بالبحيرات إلى الصحراء الرملية الحارقة التي هي عليها اليوم. ويبدو أن قرنين من الجفاف قبل نحو 1100 عام، أسهما في انقراض حضارة المايا القديمة في المكسيك ومناطق أخرى من أمريكا الوسطى. وفي عصرنا الحديث أثرت ظاهرة النينيو(1) وظواهر غير معتادة أخرى في شمال المحيط الهادئ في أنماط الطقس إلى درجة إطلاق فترات جفاف مفاجئة، مثل تلك التي سببت فترة الجفاف والتّحات المعروفة باسم «قصعة الغبار» في الولايات المتحدة في الثلاثينات من القرن الماضي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق